الجمعة، 30 يناير 2009

عيد الغدير وإرهاب السلطة (محمد الأمين)

(محمد الأمين)
يقول لابواسييه في كتاب (العبودية المختارة) صفحة (73) مخاطباً الشعوب الخاضعة: "كل هذا الخراب وهذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم، بل يأتيكم على يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره، والذين تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله، ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده، هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، ولا يملك شيئاً فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم التي لا يحصرها العدّ إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم. فأنى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي يصفعكم بها إن لم يستمدها منكم؟ أنّى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقوَ بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة الّلص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم؟ .."
(1)

عيد الغدير مناسبة دينية، يحييها أبناء اليمن منذ سنين طويلة، كغيرها من المناسبات الدينية المعروفة والمعتادة، لافرق بينها وبين إحياء مناسبة المولد النبوي، أو مناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، أو رأس السنة الهجرية أو عيد أول جمعة من رجب فالهدف واحد، والطريقة هي نفسها، ذكرى تُلقى فيها المحاضرات الثقافية وتذكر فيها المواعظ الأخلاقية والروحية والتربوية، ليس لها أي طابع سياسي، ولا تمثل أي خطر أمني، كما أنها ليست حدثاً غريباً على المجتمع اليمني، ولم يتم استيرادها بشكل مستحدث، بل هي جزء من تقاليد وعادات المجتمع اليمني، إضافة إلى كونها شعيرة من شعائر الدين، وإحياؤها هو من تعظيم شعائر الله، وإحياء لسنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. والاحتفال بهذا اليوم إعلان عن موقف وتعبير عن مشاعر لا يحتاج إلى شرعية من أحد بعد أن احتفل به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في العام العاشر للهجرة النبوية المباركة، وذلك حين أوقف أصحابه تحت هاجرة الشمس أثناء عودتهم من حج بيت اللّه الحرام، وقام فيهم خطيباً، ليبلغ ما أنزل اللّه إليه من أنه قد مَنَّ عليهم بكمال الدين وتمام النعمة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..}(المائدة:3) وهذا كل ما في الأمر !! فلماذا ترتعد مفاصل السلطة ويرتبك كيانها من إحياء هذه المناسبة؟ حتى يتدخل جهاز القمع السياسي، ويسعى جاهداً لحظر إحياء هذه المناسبة بشتى طرق الإرهاب السلطوي، من اعتقال للمواطنين وانتهاك لحرمات بيوت الله ومداهمات قمعية سافرة للبيوت والمساكن ليلاً ونهاراً؟!

لِمَ حالة الهوس الأمني والشراسة البوليسية، مالذي تخشاه من ذلك حتى أعطيت المسألة أكبر من حجمها؟ هل أصبح إحياء ذكرى الغدير خطراً على الأمن؟ وهل تذكير الناس بفضائل الخليفة الراشد وابن عم رسول الله ونصيره الإمام علي بن أبي طالب (ع) مؤامرة تحاك ضد الوطن؟! أم أنها استكمال لمواصلة خط القمع الفكري، والسير قدماً في ما بُدأ من إرهاب ضد الدين والعقيدة ؟!!

حقيقة هذا ما يبدو، فكل القرائن تنبئ عن نية مبيتة لمواصلة سلسلة طويلة من أساليب القمع السياسي للفكر والعقيدة الزيدية، وكأن السلطة لم تأخذ العبرة الكافية من أيام مضت وأحداث وقعت، وهو أمر في غاية الخطورة، لأنه ينبئ عن عقلية سلطوية في غاية الغفول، سلطة تعيش لتتسلط وتتسلط لكي تعيش، لا تنظر إلى الغد ولا تستذكر الأمس، همها علفها.
(2)


فحين تتحول مهام السلطة الحاكمة من بناء المجتمع، والحفاظ على أمنه واستقراره، إلى هدم لمعالمه، وبتر لتطلعاته، وإثارة الفتنة بين أبنائه، عندها يصبح المجتمع بمجموعه المادي والمعنوي على حافة الهاوية، ليبدأ في سقوط متسلسل هائج، يجرف في طريقه كل قيمة، ويمحو بغيِّه كل أثر، وما ممارسات جهاز القمع السياسي إلا نموذجا مصغراً لذاك التيار الجارف والقادم في الطريق، ليست تلك مبالغة ولا نظرة تشاؤمية، بل الحقيقة المعاشة واللحظة الراهنة، ورحم الله الشيخ الأحمر فقد أجاب حين سُئل عن المصير قائلاً: اليمن يتجه إلى نفق مظلم. ويالها من إجابة محيطة، وعبارة مصيبة، كافية مقنعة لأنها منه إذ هو أعرف بخبايا الحاكم منذ أن أجلسه على كرسي العرش بيديه، حين كان الحاكم خروفاً وقبل أن يتحول إلى ذئب مفترس، يلتهم كل من بقي خروفاً على طبيعته ويبقي لحراسته كل من تحول إلى ثعلب مكار أو ثعبان قاتل، ولعل الخرفان لو تشاورت في أمرها لأصبح في مجموعها أسداً ..!!
(3)


وما يحصل اليوم من قمع متواصل لحرية الفكر والعقيدة، وهتك للحقوق والحريات يذكرنا بما جرى في الغرب في القرون الوسطى، فالأمن السياسي اليوم صورة لا تختلف أبداً عن سلطة الكنيسة آنذاك، حيث لم يكونوا يسمحون لأي شخص أو جماعة بإبداء نشاط أو رأي يخالف رأيها، حتى لو كان ذلك الرأي أو النشاط قائماً على أسس علمية صحيحة وسليمة، كما لا يحق لأي فرد إثبات صحة عقائده وأفكاره، كان ذلك هو قانون الكنيسة المتسلطة، وما نشاهده اليوم من ممارسات غير مسؤولة في بلادنا ينظمها جهاز القمع السياسي، هو نفس ذلك القانون المتسلط الذي مارسته الكنيسة في القرون الوسطى، وليس هذا فحسب، بل إن النتائج التي بدأت تظهر لنا اليوم من خلال الحصار والاعتقالات لرموز البلاد وعلمائها ومفكريها هي نفسها الطريقة والممارسة التي مارستها محاكم الكنيسة آنذاك، وكانت حصيلتها إحراق المئات والآلاف من العلماء والمفكرين وهم أحياء، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق البسيط، الناتج عن عامل الزمن، وتطور وسيلة القمع والإرهاب. ولا يخفى على عاقل أن المحصلة النهائية لمثل هذا الإستبداد المزمن الذي نعيشه كل يوم هي الحالة السيئة التي وصلنا إليها في مختلف حياتنا فقد أفرز الاستبداد عن مجتمع راكد يعاني من الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، وبرز التفاوت الخطير في توزيع الثروة الوطنية مما أدى وبشكل واضح إلى توسع الفجوة الهائلة يوماً بعد يوم بين الأغنياء والفقراء، فالفقر يتنامى في كل يوم جديد، وأصبحت شريحة هائلة من الجماهير وأبناء المجتمع تعيش في هامش الحياة الفعلية والواقعية، كل ذلك ناتج عن حالة القمع والإستبداد الذي يتخذه جهاز الحاكم منهجا وقانونا في التحكم بمصير وحياة ملايين البشر من أبناء المجتمع، ظناً من فخامته المعظمة أن هذا هو الأسلوب الأمثل في إخضاع الشعب وإذلاله، ليأمن بذلك دوام معارضته واستنكاراته ومطالبته لحقوقه وحريته، ولكن هيهات هيهات..(( فَكِدْ كيدك، واجهد جهدك، فوالله ما رأيك إلا فَنَدْ، وما أيامك إلا عدد، وما جمعك إلا بَدَدْ..))

إن ما يجب أن يفهمه جهاز القمع السياسي هو أنه مهما سعى إلى قمع الفكر ومحاربة الحرية العقائدية لن يصل إلى نتيجة توافق هواه، وتحقق أهدافه وخططه السلطوية، لأن مسألة العقيدة والفكر شأن قلبي يعتمد على قناعة الإنسان وإدراكه الذاتي، ولا يمكن للقمع السياسي أن يغير ذلك، أو يحركه في اتجاه آخر، ما لم يتفاعل الإدارك والعقل لذلك التغيير، ومهما تمكن القمع السياسي من منع إحياء مناسبة عيد الغدير أو غيرها من المناسبات بشكلها المادي، إلا أنه لن يصل إلى درجه منع ذلك عن القلوب والعقول، فعيد الغدير قناعة قلبية فإن لم تجد محلها على الأرض فستجد محلها في القلوب والضمائر، وليس هنالك قوة على وجه الأرض يمكنها إزالتها أو طمسها من القلوب والعقول.
(4)


ولنا أن نتأمل حكمة الله تعالى في خلقه، وكماله في تدبيره، فرغم أن الله تعالى مكن الإنسان من امتلاك سلطان الحكم، والقوة، والجبروت، والظلم، والقمع ..وغيرها من مظاهر التحكم والتسلط، إلا أنه لم يمكنه من سلطان القلوب والعقول، لأنه تعالى يدرك مصدر القوة الحقيقي في الإنسان، ولذلك جعل القلوب محلاً للإيمان به، وسخر العقول لاكتساب ذلك الإيمان والتحكم به، وبهذه النتيجة لن يكون مقلقاً إن تمكن قراصنة القمع السياسي من إخفاء معالم الدين والعقيدة عن ظاهر الحياة المادية في المجتمع، لأن العين المجردة وغيرها من الحواس المادية، ليست الوسائل الوحيدة لدى الإنسان لإدارك الحقائق واكتساب العقائد والأفكار، فالإنسان صاحب العقل والضمير، والإدارك الوجداني، أقوى بكثير من جهاز القمع السياسي الذي لا يملك غير القوة المادية المحدودة، ومهما بلغت تلك القوة من تصاعد إلا أنها تظاهر لا قيمة له أمام قدرات الإنسان الروحية والمعنوية.

لقد كان الأحرى بحاكم القمع السياسي أن يتعلم من التاريخ ولو جزءاً بسيطاً من فصوله، فما يمارسه اليوم من قمع وإرهاب فكري وعقائدي واقتصادي ليس بالشيء الجديد على الإنسان صاحب العقل والضمير، فالتاريخ يحمل في طيات صفحاته الكثير من الأخبار والأحداث المشابهة، بل والأكثر سوءاً مما يجري اليوم في بلادنا .. اضطهاد وتعذيب، وتدخل سافر في العقائد والأفكار، ومصادرة الحقوق والحريات وقتل وتشريد للأبرياء واعتقالات لرموز العلم والفكر، ونهب للثروات وسياسة التجويع ..وكافة أنواع الظلم والطغيان، ولكن ماذا كانت النتيجة ؟!

لا شيء !! حقيقة كانت النتيجة لا شيء للحاكم وبطانته وجهازه القمعي ..! جاءهم الموت كما جاء ضحاياهم، وأصبحوا عظاماً نخرة، ومن بعدها تراب. ولم يبق من ذكراهم إلا صفحات سوداء قاتمة، تفضح سوأتهم وتكشف إجرامهم، فيلعنهم كل من جاء بعدهم. هذا غير ما سيلقونه يوم العدل العالمي، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وتنطق أيديهم بما كانوا يفعلون، فسبحان الله الذي لا يدوم سواه.
(5)


إن ممارسة القمع السياسي، والإرهاب الفكري عمل يتعارض مع مبادئ الإسلام وميثاق حقوق الإنسان، وهو أمر محرج لحكومة ترفع شعار الديمقراطية، وتدعي النظام والقانون، إن سياسة القمع الفكري تشوه سمعة الإسلام في العالم، وتُعرِّض الوطن والشعب لأعاصير من الفتن والأحقاد، فليست المسألة مجرد قضية عيد الغدير أو غيره من المناسبات الدينية، بل إنها ستتصل بعد ذلك بالفكر والعقيدة ككل، وهو الشيء الذي لن تستطيع أجهزة الاستبداد والقمع السياسي ومصادر القرار المتسلط تحمل أعبائه، فالعقيدة لا يزيدها القمع إلا قوة وصلابة، والمراهنة على ذلك ضرب من الجنون ومجازفة خاسرة. وقبل أن أختم حديثي بقي أن أهمس في أذن الحاكم الموقر وجهازه القمعي المتسلط همسة أخيرة، وهي: كان الأجدر والأفضل أن تقمع الفساد المالي والإداري وتسهر على أمن البلاد، وتسعى نحو تحقيق الإصلاح وتطلعات الشعب، لا أن تجعل من نفسك بطلاً لقمع الحريات الفكرية، والعقائد الإسلامية، وتسخر ثروة البلاد في صنع عدو وهمي، نسجته في مخيلتك، وبدأت بالبحث عنه بين صفوف شعبك، فلست الناطق الرسمي باسم الرب، وليس دورك تصنيف العقائد والأفكار الدينية، لترمي ذاك بالبدعة وآخر بالسنة، واجعل في اعتبارك أن لكل ميدان فرسانه، ومن اقحم نفسه في غير ميدانه كمن ألقى نفسه بين أمواج بحر هائج، وهو لا يستطيع العوم، واعلم أن سلطة لا تحترم شعبها هي غير جديرة بالاحترام.!!!

alamen777@hotmail.com

نقلاً عن صحيفة الوسط الأسبوعية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق